التدفق النقدي – درس تتعلمه الشركات من الإفلاس رغم الأرباح

في أوائل الألفينات، لمع نجم شركة أرابتك القابضة كواحدة من أكبر شركات المقاولات في الشرق الأوسط. تأسست الشركة في دبي عام 2004، وسرعان ما أصبحت اسماً لامعاً في عالم البناء والإنشاء، متباهية بمشاريع ضخمة مثل برج خليفة وقصر الإمارات. كان كل شيء يبدو مبشّراً، وأرقام الأرباح المحاسبية تبهر المستثمرين والأسواق على حد سواء. لكن تحت هذا البريق، كانت الحقيقة مختلفة تماماً.

تطور أداء سهم شركة ارابتيك منذ الإدراج حتى قرار حل الشركة والتصفية

في نهاية 2014، بدأت التصدعات تظهر. أعلنت الشركة عن أولى خسائرها، وبدأت رحلة الانحدار الطويل. تضخمت التكاليف، تعثرت عمليات التحصيل، وانهارت السيولة التشغيلية. تتابعت الخسائر في الأعوام التالية، حتى تراكمت لتتجاوز رأس المال بالكامل. رغم محاولات إعادة الهيكلة، وبيع الأصول، وخطط التوسع الطموحة، إلا أن الأزمة لم تكن محصورة في الأرقام، بل في غياب رقابة حقيقية على التدفق النقدي.

لقد وقعت أرابتك في الفخ الذي تقع فيه العديد من الشركات، الانخداع بالأرباح الورقية، بينما النزيف الحقيقي يحدث في الصندوق، في السيولة، في التدفق النقدي.

في عام 2020، وبعد أن أصبحت الخسائر تتجاوز 97% من رأس المال، صوت المساهمون على حل الشركة وتصفيتها. النهاية لم تكن بسبب غياب المشاريع أو ضعف الأداء فقط، بل لأن الأرباح المحاسبية لم تكن تعكس الواقع المالي الحقيقي. الأموال لم تكن تدخل الخزينة، ولم يكن هناك تدفق نقدي كافٍ يدعم استمرارية العمليات. قصة أرابتك ليست مجرد فصل مؤلم في كتاب شركات المقاولات، بل درس عميق لكل من يخلط بين الربح على الورق والسيولة في الواقع.

التدفق النقدي في ختام كل عام مالي، يتوجه اهتمام إدارة الشركة وأصحاب القرار، بالإضافة إلى المستثمرين والمحللين الماليين، إلى القوائم المالية الخاصة بالشركات، وتحديداً إلى ذلك السطر الذي يحمل عبارة صافي الربح. يُنظر إلى هذا الرقم غالبًا باعتباره المؤشر الأهم والأكثر تعبيراً عن أداء الشركة ونجاحها خلال العام. فهو يُستخدم للحكم على كفاءة الإدارة وربحية النشاط، كما يُؤثر بشكل كبير على قرارات الاستثمار وتوزيع الأرباح.

لكن!، هل تساءلت يوماً عن ما إذا كان هذا الرقم وحده كافياً لتكوين صورة واضحة عن الوضع المالي الحقيقي للشركة؟. ماذا لو كانت هناك شركات تُظهر في تقاريرها المالية أرباحًا ضخمة تُقدّر بالملايين، بينما هي في الواقع تُواجه صعوبات كبيرة في إدارة السيولة النقدية؟ بل وقد تصل الأزمة إلى درجة تهدد فيها استمرارية الشركة نفسها وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها قصيرة الأجل!

إدارة التدفق النقدي بذكاء

صافي الربح، رغم أهميته الظاهرة، لا يُعبّر دائماً عن الصحة المالية الكاملة للمؤسسة. إذ يمكن التلاعب ببعض البنود المحاسبية أو تأجيل المصروفات أو الاعتراف بإيرادات مستقبلية قبل أوانها. علي سبيل المثال، دفعات غير محصلة لوحدات في الاستثمار العقاري سيتم تحصيلها بعد 10 اعوام!، أمور مثل هذه تجعل الصورة الظاهرة في القوائم المالية تبدو وردية أكثر مما هي عليه في الواقع.

حقيقة يتجاهلها الكثير – السيولة النقدية أهم من الأرباح المحاسبية

من الحقائق الصادمة في عالم المال والأعمال، والتي قد تثير دهشة البعض، أن ما يعرف بالربح المحاسبي قد لا يكون بالضرورة الوضع الحقيقي للشركة. غالباً يكون هذا الرقم مجرد نتيجة لتطبيق قواعد محاسبية وأسس نظرية يمكن التلاعب بها أو تعديلها بطرق قانونية، دون أن يكون لها انعكاس فعلي على الواقع المالي اليومي للشركة. في المقابل، فإن التدفق النقدي يمثل الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، فهو يعبر عن المال الحقيقي المتاح في خزينة الشركة.

في هذا المقال، سنخوض رحلة لفهم الفجوة المالية التي قد تحدث بمجرد اعتبار رقم صافي الربح مؤشر للنجاح او الهبوط، ونستعرض عدة محاور مهمة تساعدك على رؤية الصورة الكاملة لأداء شركتك، بعيدًا عن الأرقام المضللة.

يقول المثل الشهير في عالم الأعمال (Cash is fact, profit is opinion)، بمعني ان النقد هو الحقيقة، أما الربح فهو مجرد رؤية. هذا المثل يلخص بشكل قوي الفجوة الكبيرة التي قد توجد بين ما تظهره التقارير المحاسبية من أرباح، وبين الوضع النقدي الفعلي للشركة.

لماذا قد تبدو الشركة رابحة على الورق، وتعاني من أزمة مالية حقيقية في الواقع؟

قد تُظهر القوائم المالية أرقامًا مغرية لأرباح محاسبية، إلا أن الشركة قد تجد نفسها غير قادرة على دفع الرواتب أو تسديد الفواتير أو تغطية التزاماتها اليومية او الشهرية مثل القروض والأقساط. سنتحدث عن الأسباب الكامنة خلف هذه الظاهرة وكيف يمكن أن تكون الأرباح وهمية عندما لا يقابلها تدفق نقدي حقيقي.

الربح المحاسبي مقارنةً بالتدفق النقدي – ما الفرق بينهم؟

الربح المحاسبي – الرقم الذي قد يخدعك

عندما تُعلن الشركة عن أرباحها، فإنها تستخدم مبدأ الاستحقاق المحاسبي – Accrual Accounting، والذي يعني تسجيل الإيرادات والمصروفات عند حدوثها وليس عند استلام أو دفع النقود. وهذا يؤدي إلى سيناريوهات مثل:

  • مبيعات آجلة: قد تسجل إيرادات من منتجات لم يتم تحصيل قيمتها بعد.
  • تقييم الأصول: زيادة في قيمة المخزون أو الممتلكات تُضاف إلى الأرباح رغم أنها لم تتحول إلى كاش.

علي سبيل المثال: إذا باعت الشركة وحدة او سلمت مشروع بقيمة 1,000,000 ريال بشرط السداد بعد 6 أشهر، سجلت ربح مليون ريال اليوم، لكنك لم تستلم أي كاش بعد!.

2. التدفق النقدي – اكسجين الأعمال

التدفق النقدي هو حركة النقود الفعلية الداخلة والخارجة من الشركة. حتى لو كانت أرباحك عالية، فغياب الكاش يعني:

  • عدم القدرة على دفع المرتبات.
  • تأخير سداد الموردين (مما يُدمر السمعة).
  • تعطيل خطط التوسع أو الصيانة.

علي سبيل المثال: شركة Toys R Us أعلنت عن أرباح جيدة قبل إفلاسها عام 2017، لكنها لم تستطع سداد ديونها بسبب سوء إدارة التدفق النقدي!

لماذا التدفق النقدي أهم من الربح المعلن؟

التخطيط المالي الفعّال – لماذا تجعل التدفق النقدي أولويتك؟

في عالم الأعمال، غالباً ما يُنظر إلى تحقيق الربح كمؤشر رئيسي على النجاح والنمو. وهو بالفعل عنصر مهم، خاصة عند تقييم الأداء المالي على المدى الطويل. فالربح يُظهر مدى قدرة الشركة على تحقيق دخل يفوق مصروفاتها، ويُعطي انطباعاً عاماً عن جدوى النشاط التجاري واستدامته. لكن، وعلى الرغم من أهمية الربح المحاسبي، إلا أن هناك عنصر أكثر إلحاحاً وحساسية في الواقع العملي اليومي، وهو التدفق النقدي. فبدون تدفق نقدي مستقر وإيجابي، قد تجد الشركة نفسها غير قادرة على الاستمرار في تسيير أعمالها، مهما بلغت أرباحها على الورق.

الربح يُخبرك إلى أي مدى أنت ناجح على الورق وفي تقارير الأداء السنوية، أما النقد فهو ما يُبقي الأبواب مفتوحة والأضواء مضاءة اليوم، وغدًا، وفي كل لحظة.

التخطيط المالي الفعّال لا يقتصر على تحقيق الأرباح، بل يتطلب إدارة دقيقة للتدفقات النقدية الداخلة والخارجة. ويشمل ذلك مراقبة مواعيد تحصيل الإيرادات، وجدولة المدفوعات، وتوقع أي اختناقات مالية محتملة قبل أن تحدث. الشركات التي تتعامل مع التدفق النقدي بجدية، وتضعه ضمن أولوياتها في التخطيط، غالبًا ما تكون أكثر مرونة في مواجهة الأزمات، وأكثر قدرة على اغتنام الفرص الاستثمارية عندما يتاح ذلك.

لا تُدفع الفواتير بالأرباح الورقية – النقد السائل هو الضامن

الأرباح المحاسبية لا تُدفع بها الفواتير. إنها أرقام تُسجل وفقاً للمبادئ المحاسبية تعتمد على الاستحقاق، مما يعني أن الإيرادات تُحتسب أحياناً قبل تحصيلها فعلياً، والنفقات تُسجل حتى إن لم تُدفع بعد. هذا يخلق فجوة بين ما يبدو أنك تمتلكه، وبين ما هو فعلياً متاح لديك في خزينة الشركة. فما يهم الموردين والموظفين، بل وحتى الجهات الحكومية، هو النقد الفعلي المتوفر الآن. فهم لا يهتمون إذا كانت شركتك قد حققت أرباحًا ورقية، بل يريدون أن يتقاضوا مستحقاتهم نقداً وفي الوقت المحدد. إن لم يكن لديك سيولة نقدية كافية، فإن الأرباح لن تُنقذك من تراجع الثقة، أو من تعطل العمليات، أو من تراكم الديون.

لهذا السبب، يعتبر النقد السائل هو الضامن الحقيقي لاستمرارية النشاط التجاري. إنه الوقود الذي يُبقي المحرك يعمل، بغضّ النظر عن مدى جمال الأرقام الظاهرة في تقرير الأرباح والخسائر.

كيف تنقذ شركتك بتوقعات التدفق النقدي؟

تقرير توقعات التدفق النقدي

هو تقرير يُظهر:

  • الكاش الداخل (من المبيعات، الاستثمارات، القروض).
  • الكاش الخارج (مرتبات، موردين، ضرائب).
  • التوقيت (متى تحتاج النقود؟ ومتى ستُتاح؟).
عرض توضيحي لتقرير التدفقات النقدية
هل تُتابع أرباحك وتُهمل السيولة؟
لا تدع شركتك تُفاجأ بأزمة نقدية!
اطلب عرض توضيحي لتقرير التدفق النقدي في برنامج بابل وتعرّف على وضعك المالي الحقيقي لحظة بلحظة.

كيف يُساعدك هذا التقرير؟

  • تكتشف الفجوات النقدية قبل شهرين أو ثلاثة مما يمنحك وقتًا للحلول.
  • تتخذ قرارات استباقية مثل:
  • تسريع تحصيل المستحقات (إرسال فواتير أسرع، تقديم خصومات للدفع المقدم).
  • تأجيل مدفوعات غير ضرورية.
  • التفاوض على شروط دفع أفضل مع الموردين.

اهم الإستراتيجيات لتحسين التدفق النقدي في شركت المقاولات

تحسين التحصيل

  • تقصير فترة التحصيل: بدلًا من 60 يومًا، اجعلها 30 يومًا.
  • الدفع المقدم: قدّم خصمًا 2% للعملاء الذين يدفعون فورًا.

إدارة المخزون بذكاء

المخزون الراكد = كاش مُقيد! استخدم مبدأ Just-In-Time لتقليل التكديس.

مرونة في المدفوعات

  • تفاوض مع الموردين على شروط أطول.
  • استخدم الائتمان التجاري بحكمة.

التمويل المؤقت

  • خطوط ائتمان بنكية للطوارئ.
  • التخصيم – Factoring: بيع الفواتير الآجلة لشركة متخصصة لتحصيل كاش فوري.

الربح مهم، لكنه ليس كل شيء. العديد من الشركات الغير رابحة نجت بفضل تدفق نقدي جيد، والعكس صحيح. السيولة النقدية هي التي تُحدد إذا كنت ستبقى في السوق أم لا. ابدأ اليوم بتحليل تدفقك النقدي، وتوقع المشكلات قبل حدوثها، واعمل دائمًا على أن يكون لديك اكسجين نقدي – Cash Cushion يكفيك لـ 3 أشهر على الأقل.

إذا كنت تريد أن تنام مرتاحًا كصاحب عمل، توقف عن التركيز فقط على “الربح الصافي”، وانظر إلى حركة الكاش في حسابك البنكي، فهي الحقيقة التي لا تكذب!

إذا كنت تريد أن تنام مرتاحًا كصاحب عمل، توقف عن التركيز فقط على الربح الصافي، وانظر إلى حركة الكاش في حسابك البنكي، فهي الحقيقة التي لا تكذب!. يتيح النظام أيضًا مراعاة التضخم الذي قد يؤثر على تكلفة المواد والمصنعيات بمرور الوقت، مما يضمن تقديم تقديرات دقيقة للتكاليف. بفضل هذه الأدوات، يمكن للمستخدم الحصول على تحليل شامل لكل بند من بنود المشروع، مما يسهم في تحسين دقة التخطيط المالي وتقليل فرص حدوث تجاوزات في الميزانية.

المصادر:

هل لديك تجربة مع أزمة نقدية؟ شاركنا كيف تعاملت معها في التعليقات!


اكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *